الوصية في الإسلام مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والأدلة على ذلك كثيرة لما فيها من فائدة حفظ الحقوق ومواصلة الإنسان عمله بعد موته لما فيه خير له ولمن حوله وإن كانت الأدلة في مجملها تدل على أن أهم ما يجب أن تتناوله الوصايا هي الأموال والأملاك إلا أن ذلك لا يعني اقتصارها على ذلك فقط.
فالوصية بوح نفسي يسبق الاغماضة الأخيرة يودع الإنسان فيها بعضا من نفسه وآخر أمنياته.
وكلما كان ذلك المغادر كبيرا وذا شأن كانت وصيته أهم وأخطر وعليه أن يضع وصيته قبل الموت لا خلاله لأن من يموت لا يتمتع برؤية صافية للأمور بل تغلبه العاطفة التي قد تظلمه وتظلم أصحاب الحقوق.
هذه خواطر طافت بي وأنا أطالع مقتطفات من وصية جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد – غفر الله له – فهذا رجل قد حكم البلاد والعباد نصف قرن ولطالما كان شخصية محورية اشتهر عنها الحكمة والصمت المؤثر.
ولابد أن وصيته بها الكثير إلا أن ما تم الكشف عنه هو الأهم والأخطر من وجهة نظري.
فالزعيم اهتم بأمر شعبه حتى النهاية لذلك أوصى جلالة السلطان رحمه الله بخليفته وسماه راجيا أن يكون عند حسن ظن الجميع بمن عيّنه سطانا من بعده. وهنا تتجلى حكمته في المحافظة على البلاد التي لم تعرف ولي أمر غيره.
وفي مقتطف آخر في نفس السياق أوصى شعبه والأسرة الحاكمة بالاتفاق لا الاختلاف الذي ستكون عواقبه خطيرة على البلاد مستدلا بقوله تعالى: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”. صدق الله العظيم.
أما أهم الدروس في تلك الوصية -برأيي- ما جاء آخرها حيث هو نزع جلالة السلطان تاجه وتحرره من كل مظاهر السلطة والحكم ليوجّه الخطاب لشعبه ومواطنيه الذين وصفهم بالأعزاء للدلالة على قربه منهم وقربهم منه.
فخاطبهم خطابا مباشرا كإنسان عاش بينهم ووهب حياته لهم دون أن يشاركهم في ذلك طفل حبيب أو زوج قريب.. إنسان يواجه الموت ويرى محطة المغادرة جليّة وواضحة فيقول لهم:
أيها المواطنون الأعزاء
انقطع عملي وأنتم أملي
صدقة تؤنسني.. دعواتكم ترفعني
فلا تحرموني وأنا في قبري
فكل شيء منكم يصلني
آخر الوصية.. هي ما يختم بها الإنسان وصيته بما يشغل باله ويرجوه في آخر أنفاسه.. وأكاد أجزم بأن تلك الأمنيات خاتمة كل وصية خطها مسلم غادرنا إلى الحياة الآخرة.
غفر الله لجلالة السلطان قابوس الذي سيبقى اسما خالدا في كتاب التاريخ الذي لا يبقي ولا يذر.. هذا السلطان الذي استمر بإلقاء الدروس الهامة حيا وميتا.